فصل: من فوائد الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الجصاص:

قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} إلَى قوله تعالى: {وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ الله} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَيْسَتْ مِنْ عِنْدِ الله، وَلَا مِنْ فِعْلِهِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنْ فِعْلِهِ لَكَانَتْ مِنْ عِنْدِهِ، وَقَدْ نَفَى الله نَفْيًا عَامًّا كَوْنَ الْمَعَاصِي مِنْ عِنْدِهِ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ فِعْلِهِ لَكَانَتْ مِنْ عِنْدِهِ مِنْ آكَدِ الْوُجُوهِ، فَكَأن لا يَجُوزُ إطْلَاقُ النَّفْيِ بأنه لَيْسَ مِنْ عِنْدِهِ.
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ يُقَالُ إنَّ الإيمان مِنْ عِنْدِ الله، وَلَا يُقَالُ أنه مِنْ عِنْدِهِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، كَذَلِكَ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي.
قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ إطْلَاقَ النَّفْيِ يُوجِبُ الْعُمُومَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إطْلَاقُ الْإِثْبَاتِ، أَلَا تَرَى أنك لَوْ قُلْت: مَا عِنْدَ زَيْدٍ طَعَامٌ كَانَ نَفْيًا لِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَلَوْ قُلْت: عِنْدَهُ طَعَامٌ مَا كَانَ عُمُومًا فِي كَوْنِ جَمِيعِ الطَّعَامِ عِنْدَهُ؟. اهـ.

.قال في الميزان:

وتكرار لفظ الكتاب ثلاث مرات في الكلام لدفع اللبس فإن المراد بالكتاب الأول هو الذي كتبوه بأيديهم ونسبوه إلى الله سبحانه وبالثاني الكتاب الذي أنزله الله تعالى بالوحي وبالثالث هو الثاني كرر لفظه لدفع اللبس وللإشارة إلى أن الكتاب بما أنه كتاب الله أرفع منزلة من أن يشتمل على مثل تلك المفتريات وذلك لما في لفظ الكتاب من معنى الوصف المشعر بالعلية.
ونظيره تكرار لفظ الجلالة في قوله: {ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله} فالمعنى وما هو من عند الله الذي هو إله حقا لا يقول إلا الحق قال تعالى: {والحق أقول} وأما قوله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون تكذيب بعد تكذيب لنسبتهم ما اختلقوه من الوحي إلى الله سبحانه فإنهم كانوا يلبسون الأمر على الناس بلحن القول فأبطله الله بقوله: {وما هو من الكتاب} ثم كانوا يقولون بألسنتهم هو من عند الله فكذبهم الله أولا بقوله: {وما هو من عند الله} وثانيا بقوله: {ويقولون على الله الكذب} وزاد في الفائدة أولا أن الكذب من دأبهم وديدنهم وثانيا أن ذلك ليس كذبا صادرا عنهم بالتباس من الأمر عليهم بل هم عالمون به متعمدون فيه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد الألوسي:

قال رحمه الله:
{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا} أي إن من أهل الكتاب الخائنين لجماعة {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بالكتاب} أي يحرفونه قاله مجاهد وقيل: أصل الليّ الفتل من قولك: لويت يده إذا فتلتها، ومنه لويت الغريم إذا مطلته حقه قال الشاعر:
تطيلين لياني وأنت (ملية) ** وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا

وفي الخبر: «ليّ الواجد ظلم» فالمعنى يفتلون ألسنتهم في القراءة بالتحريف في الحركات ونحوها تغييرًا يتغير به المعنى ويرجع هذا في الآخرة إلى ما قاله مجاهد، وقريب منه ما قيل: إن المراد يميلون الألسنة بمشابه الكتاب، والألسنة جمع لسان، وذكر ابن الشحنة أنه يذكر ويؤنث. ونقل عن أبي عمرو بن العلاء أن من أنثه جمعه على ألسن، ومن ذكره جمعه على ألسنة، وعن الفراء أنه قال: اللسان بعينه لم أسمعه من العرب إلا مذكرًا ولا يخفى أن المثبت مقدم على النافي؛ والباء صلة أو للآلة أو للظرفية أو للملابسة، والجار والمجرور حال من الألسنة أي ملتبسة بالكتاب، وقرأ أهل المدينة يلوون بالتشديد فهو على حد {لَوَّوْاْ رُءوسَهُمْ} [المنافقون: 5] وعن مجاهد وابن كثير يلون على قلب الواو المضمومة همزة ثم تخفيفها بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها كذا قيل، واعترض عليه بأنه لو نقلت ضمة الواو لما قبلها فحذفت لالتقاء الساكنين كفى في التوجيه فأي حاجة إلى قلب الواو همزة، ورد بأنه فعل ذلك ليكون على القاعدة التصريفية بخلاف نقل حركة الواو ثم حذفها على ما عرف في التصريف، ونظر فيه بعض المحققين بأن الواو المضمومة إنما تبدل همزة إذا كانت ضمتها أصلية فهو مخالف للقياس أيضا. نعم قرئ يلؤون بالهمز في الشواذ وهو يؤيده، وعلى كل ففيه اجتماع إعلالين ومثله كثير، وأما جعله من الولي بمعنى القرب أي يقربون ألسنتهم بميلها إلى المحرف فبعيد من الصحيح قريب إلى المحرف.
{لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب} أي لتظنوا أيها المسلمون أن المحرف المدلول عليه باللي أو المشابه من كتاب الله تعالى المنزل على بعض أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، وقرئ {ليحسبوه} بالياء والضمير أيضا للمسلمين.
{وَمَا هُوَ مِنَ الكتاب} ولكنه من قبل أنفسهم {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ الله} أي ويزعمون صريحًا غير مكتفين بالتورية والتعريض أن المحرف أو المشابه نازل من عند الله {وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} أي وليس هو نازلًا من عند الله تعالى، والواو للحال والجملة حال من ضمير المبتدأ في الخبر، وفي جملة {وَيَقُولُونَ} الخ تأكيد للنفي الذي قبلها وليس الغرض التأكيد فقط وإلا لما توجه العطف بل التشنيع أيضا بأنهم لم يكتفوا بذلك التعريض حتى ارتكبوا هذا التصريح وبهذا حصلت المغايرة المقتضية للعطف، والإظهار في موضع الإضمار لتهويل ما قدموا عليه، واستدل الجبائي والكعبي بالآية على أن فعل العبد ليس بخلق الله تعالى وإلا صدق أولئك المحرفون بقولهم: {هُوَ مِنْ عِندِ الله} تعالى لكن الله وردّ بأن القوم ما ادعوا أن التحريف من عند الله وبخلقه وإنما ادعوا أن المحرف منزل من عند الله، أو حكم من أحكامه فتوجه تكذيب الله تعالى إياهم إلى هذا الذي زعموا.
والحاصل أن المقصود بالنفي كما أشرنا إليه نزوله من عنده سبحانه وهو أخص من كونه من فعله وخلقه، ونفي الخاص لا يستلزم نفي العام فلا يدل على مذهب المعتزلة القائلين بأن أفعال العباد مخلوقة لهم لا لله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب} أي في نسبتهم ذلك إلى الله تعالى تعريضًا وتصريحًا {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كاذبون عليه سبحانه وهو تسجيل عليهم بأن ما افتروه عن عمد لا خطأ، وقيل: يعلمون ما عليهم في ذلك من العقاب، روى الضحاك عن ابن عباس أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعًا وذلك أنهم حرفوا التوراة والإنجيل وألحقوا بكتاب الله تعالى ما ليس منه، وروى غير واحد أنها في طائفة من اليهود، وهم كعب بن الأشرف ومالك وحيي بن أخطب وأبو ياسر وشعبة بن عمرو الشاعر غيروا ما هو حجة عليهم من التوراة.
واختلف الناس في أن المحرف هل كان يكتب في التوراة أم لا؟ فذهب جمع إلى أنه ليس في التوراة سوى كلام الله تعالى وأن تحريف اليهود لم يكن إلا تغييرًا وقت القراءة أو تأويلًا باطلًا للنصوص، وأما أنهم يكتبون ما يرومون في التوراة على تعدد نسخها فلا، واحتجوا لذلك بما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه قال: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منهما حرف ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم ويقولون: إن ذلك من عند الله وما هو من عند الله فأما كتب الله تعالى فإنها محفوظة لا تحول وبأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لليهود إلزامًا لهم: {فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [آل عمران: 93] وهم يمتنعون عن ذلك فلو كانت مغيرة إلى ما يوافق مرامهم ما امتنعوا بل وما كان يقول لهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يعود على مطلبه الشريف بالإبطال. وذهب آخرون إلى أنهم بدلوا وكتبوا ذلك في نفس كتابهم واحتجوا على ذلك بكثير من الظواهر ولا يمنع من ذلك تعدد النسخ إما لاحتمال الطواطؤ أو فعل ذلك في البعض دون البعض وكذا لا يمنع منه قول الرسول لهم ذلك لاحتمال علمه صلى الله عليه وسلم ببقاء بعض ما يفي بغرضه سالمًا عن التغيير إما لجهلهم بوجه دلالته، أو لصرف الله تعالى إياهم عن تغييره، وأما ما روي عن وهب فهو على تقدير ثبوته عنه يحتمل أن يكون قولًا عن اجتهاد، أو ناشئًا عن عدم استقراء تام، ومما يؤيد وقوع التغيير في كتب الله تعالى وأنها لم تبق كيوم نزلت وقوع التناقض في الأناجيل وتعارضها وتكاذبها وتهافتها ومصادمتها بعضها ببعض، فأنها أربعة أناجيل:
الأول: إنجيل متى وهو من الاثني عشر الحواريين وإنجيله باللغة السريانية كتبه بأرض فلسطين بعد رفع المسيح إلى السماء بثماني سنين وعدة إصحاحاته ثمانية وستون إصحاحًا.
والثاني: إنجيل مرقس وهو من السبعين وكتب إنجيله باللغة الفرنجية بمدينة رومية بعد رفع المسيح باثنتي عشرة سنة وعدة إصحاحاته ثمانية وأربعون إصحاحًا.
والثالث: إنجيل لوقا وهو من السبعين أيضا كتب إنجيله باللغة اليونانية بمدينة الإسكندرية بعد ذلك وعدة إصحاحاته ثلاثة وثمانون إصحاحًا.
والرابع: إنجيل يوحنا وهو حبيب المسيح كتب إنجيله بمدينة إقسس من بلاد رومية بعد رفع المسيح بثلاثين سنة وعدة إصحاحاته في النسخ القبطية ثلاثة وثلاثون إصحاحًا، وقد تضمن كل إنجيل من الحكايات والقصص ما أغفله الآخر، واشتمل على أمور وأشياء قد اشتمل الآخر على نقيضها أو ما يخالفها، وفيها ما تحكم الضرورة بأنه ليس من كلام الله تعالى أصلًا، فمن ذلك أن متى ذكر أن المسيح صلب وصلب معه لصان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وأنهما جميعًا كانا يهزءان بالمسيح مع اليهود ويعيرانه، وذكر لوقا خلاف ذلك فقال: إن أحدهما كان يهزأ به والآخر يقول له: أما تتقي الله تعالى أما نحن فقد جوزينا وأما هذا فلم يعمل قبيحًا ثم قال للمسيح: يا سيدي أذكرني في ملكوتك فقال: حقًا أنك تكون معي اليوم في الفردوس ولا يخفى أن هذا يؤول إلى التناقض فإن اللصين عند متى كافران وعند لوقا أحدهما مؤمن والآخر كافر، وأغفل هذه القصة مرقس ويوحنا، ومنه أن لوقا ذكر أنه قال يسوع: إن ابن الإنسان لم يأت ليهلك نفوس الناس ولكن ليحيى وخالفه أصحابه وقالوا بل قال: إن ابن الإنسان لم يأت ليلقي على الأرض سلامة لكن سيفًا ويضرم فيها نارًا، ولا شك أن هذا تناقض، أحدهما: يقول جاء رحمة للعالمين، والآخر يقول: جاء نقمة على الخلائق أجمعين، ومن ذلك أن متى قال: قال يسوع للتلاميذ الإثني عشر:
أنتم الذين تكونون في الزمن الآتي جلوسًا على إثني عشر كرسيًا تدينون إثني عشر سبط إسرائيل فشهد للكل بالفوز والبر عامة في القيامة ثم نقض ذلك متى وغيره وقال: مضى واحد من التلاميذ الإثني عشر وهو يهوذا صاحب صندوق الصدقة فارتشى على يسوع بثلاثين درهمًا وجاء بالشرطي فسلم إليهم يسوع فقال يسوع: الويل له خير له أن لا يولد، ومنه أن متى أيضا ذكر أنه لما حمل يسوع إلى فيلاطس القائد قال: أي شر فعل هذا فصرخ اليهود وقالوا: يصلب يصلب فلما رأى عزمهم وأنه لا ينفع فيهم أخذ ماءًا وغسل يديه وقال: أنا برئ من دم هذا الصديق وأنتم أبصر، وأكذب يوحنا ذلك فقال: لما حمل يسوع إليه قال لليهود: ما تريدون؟ قالوا: يصلب فضرب يسوع ثم سلمه إليهم إلى غير ذلك مما يطول، فإذا وقع هذا التغيير والتحريف في أصول القوم ومتقدميهم فما ظنك في فروعهم ومتأخريهم.
وإذا كان في الأنابيب حيف ** وقع الطيش في صدور الصعاد

ويا ليت شعري هل تنبه ابن منبه لهذا أم لم يتنبه فقال: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى سبحان الله هذا من العجب العجاب؟ اهـ.

.من فوائد صاحب المنار:

قال رحمه الله:
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}.
هَذَا بَيَانُ حَالٍ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ، تُمَثِّلُهَا طَائِفَةٌ أُخْرَى تَخُونُ الْأَمَانَةَ وَتَسْتَحِلُّ أَكْلَ أَمْوَالِ مَنْ لَيْسَ مِنَ الْإسرائيليِّينَ بِالْبَاطِلِ غُرُورًا فِي الدِّينِ وَتَأْوِيلًا لِلْكِتَابِ. وَهِيَ قَدْ جَاءَتْ فِي مُقَابِلِ الطَّائِفَةِ الَّتِي تَكِيدُ لِلْمُسْلِمِينَ لِيَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} إِلَخْ. هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ بِبَعْضِ التَّفْصِيلِ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ غُرُورِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ الْخَاصِّ، وَأن الدين وَالْحَقَّ مِنْ خَصَائِصِهِمْ. وَابْتِدَاؤُهَا بِالْعَطْفِ يُشْعِرُ بِمَعْطُوفٍ مَحْذُوفٍ حُذِفَ إِيجَازًا، لِأَنَّ السِّيَاقَ لَا يَقْتَضِي ذِكْرَهُ وَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [3: 113] إِلَخْ. فَكَأَنَّهُ هَاهُنَا يَعْطِفُ عَلَى مَا هُنَالِكَ، أَيْ مِنْهُمْ كَذَا وَمِنْهُمْ كَذَا. وَإِنَّمَا قَالَ: كَأَنَّهُ؛ لِأَنَّ آيَةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ... إِلَخْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَلَعَلَّ جَعْلَهُ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ بِاعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ أَقْرَبُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مِنْهُمْ طَائِفَةٌ تَكِيدُ لِلْمُسْلِمِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِلُّ أَكْلَ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ آنِفًا وَإِنَّمَا أَعَادَ ذِكْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَمْ يَبْتَدِئِ الْآيَةَ بِقوله: {وَمِنْهُمْ}- وَالْكَلَامُ فِيهِمْ- لِلْإِشْعَارِ بأنهمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِاسْمِ الْكِتَابِ الَّذِي حَرَّفُوا نَهْيَهُ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ فَزَعَمُوا أنه لَمْ يَنْهَهُمْ إِلَّا عَنْ خِيَانَةِ إِخْوَتِهِمُ الْإسرائيليِّينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْقِنْطَارِ (آيَةُ 14) وَقوله: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} مَعْنَاهُ إِلَّا مُدَّةَ دَوَامِكَ أَيُّهَا الْمُؤْتَمِنُ لَهُ قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ تُلِحُّ بِالْمُطَالَبَةِ، أَوْ تَلْجَأُ إِلَى التَّقَاضِي وَالْمُحَاكَمَةِ، ذَلِكَ بأنهمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أَيْ ذَلِكَ التَّرْكُ لِلْأَدَاءِ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي أَكْلِ أَمْوَالِ الْأُمِّيِّينَ أَيِ الْعَرَبِ تَبِعَةٌ وَلَا ذَنْبٌ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ اسْتِحْلَالَ هَذِهِ الْخِيَانَةِ جَاءَهُمْ مِنَ الْغُرُورِ بِشَعْبِهِمْ وَالْغُلُوِّ فِي دِينِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَتْبِعُ احْتِقَارَ الْمُخَالِفِ احْتِقَارًا يُهْضَمُ بِهِ حَقُّهُ الثَّابِتُ فِي الْمُعَامَلَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ كُلَّ مَنْ لَيْسَ مِنْ شَعْبِ اللهِ الْخَاصِّ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ فَهُوَ سَاقِطٌ مِنْ نَظَرِ اللهِ وَمَبْغُوضٌ عِنْدَهُ، فَلَا حُقُوقَ لَهُ وَلَا حُرْمَةَ لِمَا لَهُ فَيَحِلُّ أَكْلُهُ مَتَى أَمْكَنَ، وَقَدْ رَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْمَزَاعِمَ بِقوله: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْهُ فَهُوَ مَا جَاءَ فِي كِتَابِهِ وَلَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي عِنْدَهُمْ إِبَاحَةُ خِيَانَةِ الْأُمِّيِّينَ وَأَكْلِ أَمْوَالِهِمْ بِالْبَاطِلِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهَا، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ الدِّينَ مِنَ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا لَجَئُوا إِلَى التَّقْلِيدِ فَعَدُّوا كَلَامَ أَحْبَارِهِمْ دِينًا يَنْسُبُونَهُ إِلَى اللهِ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ فِي الدِّينِ بِآرَائِهِمْ وَيُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ لِيُؤَيِّدُوا بِذَلِكَ أَقْوَالَهُمْ، فَكُلُّ هَذِهِ الدَّوَاهِي جَاءَتْهُمْ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ، نَاحِيَةِ التَّقْلِيدِ وَالْأَخْذِ بِكَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُؤْخَذُ فِيهِ إِلَّا بِكِتَابِ اللهِ وَوَحْيِهِ. وَانْظُرْ كَيْفَ أَنْصَفَهُمُ الْكِتَابُ فَبَيَّنَ أَنَّ مِنْهُمُ الْوَفِيَّ وَالْخَائِنَ، وَلَا يَكُونُ أَفْرَادُ جَمِيعِ الْأُمَّةِ خَائِنِينَ، وَنَاهِيكَ بِأُمَّةٍ مِنْهَا السَّمَوْأَلُ.
أَقُولُ: وَفِي خَبَرِ هَؤُلَاءِ الْمُحَرِّفِينَ مِنَ الْعِبْرَةِ لَنَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَا فِيهِ، فَإِنَّ فِينَا مَنْ يَقُولُ الْآنَ: أنه يَجُوزُ أَكْلُ أَمْوَالِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ بَلِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُطْلَقًا، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُفَسِّرُونَ دَارَ الْحَرْبِ- كَمَا يَشَاءُونَ- حَتَّى رَأَيْتُ بَعْضَ النَّاسِ يُحِلُّونَ لِعُمَّالِ مَرْكَبَاتِ التِّرَامِ بِمِصْرَ أَنْ يَخُونُوا أَصْحَابَهَا بِبَيْعِ تَذْكِرَةِ الرُّكُوبِ فِيهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَيُسَاعِدُونَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَإِنِ اسْتَلْزَمَتْ مُسَاعَدَتُهُمُ الْكَذِبَ، فَهُمْ بِهَذَا يُحِلُّونَ الْخِيَانَةَ وَالسَّرِقَةَ وَالْكَذِبَ وَهِيَ مِنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي الَّتِي لَا تَحِلُّ فِي دِينٍ، وَيَتَنَاوَلُهُمْ وَعِيدُ الْيَهُودِ فِي الْآيَةِ وَوَعِيدُ قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [16: 116، 117] وَمَا جَرَّأَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا سُوءُ التَّقْلِيدِ لِلْفُقَهَاءِ الَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ أَكْلِ مَالِ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِهِ بِالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لَا تَحِلُّ فِي دَارِ الإسلام كَالرِّبَا وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءَ لَا يُحِلُّونَ الْغِشَّ وَلَا الْخِيَانَةَ وَلَا السَّرِقَةَ وَلَا الْكَذِبَ وَالِاحْتِيَالَ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ يَجُوزُ أَكْلُ مَالِهِ بِرِضَاهُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْعُقُودِ، عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ خِلَافِيَّةٌ لَمْ يَتَّفِقِ الْفُقَهَاءُ عَلَيْهَا. فَلْيَنْظُرِ الْمُسْلِمُ الصَّادِقُ الْمُسْتَنِيرُ بِالدَّلِيلِ إِلَى سُوءِ مَغَبَّةِ التَّقْلِيدِ وَكَيْفَ أنه اسْتَلْزَمَ الِاجْتِهَادَ الْبَاطِلَ إِذْ صَارَ الْجَاهِلُونَ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ يَقِيسُونَ أَكْلَ الْمَالِ بِالْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ وَالسَّرِقَةِ عَلَى أَكْلِهِ بِالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ مَعَ التَّرَاضِي، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ عَظِيمٌ.